هل أنت هنا

هل أنت هنا

منذ بدايته، امتاز شعر الشاعر البريطاني لي هاروود بالعلاقة الجدلية بين الانفتاح والانغلاق، والحاضر والماضي، والحركة والسكون، والداخل والخارج، وبين المكان والفضاء. لكن علاقته مع المكان والفضاء، متحركة دائماً، ويمكن تقسيمها غلى مرحلتين: جغرافية وذهنية. خلال المرحلة الأولى، الممتدة من الستينات حتى منتتصف السبعينات، التي يمكن أن نطلق عليها" فترة الانسلاخ عن المكان"، " أو " الفترة الأطلسية"، كما أطلق عليها، 1 غلب على الشاعر الاهتمام إلى درجة كبيرة بالأمكنة كجغرافيا، أكثر مما كونها أمكنة تخلية أم مجردة، على الرغم من أن هناك قصائد في هذه المرحلة كانت منفتحة على المجرد والمنظور التخيلي أو التصوري. والمقارنة بين قصائد الشاعر الاولى والمتأخرة، تتيح لنا تفحص التطور الذي حصل في علاقته بالمكان والفضاء، ارتباطاً مع تطور لغته الشعرية، خاصة في الثمانينيات فصاعداً، حين أصبحت قصائده منشغلة ذهنيا أكثر بالمكان والفضاء، وباتت لغته أكثر صقلاً، كما أصبحت، مساحة تحركه شعريا أكثر تنوعاً، وتعدداً، وعفوية أيضاً، متأثرا بما سمي بـ" المجال المفتوح"، كما عند شعراء مدرسة نيويورك، ومستفيداً تكنيكياً من الدادائية والسوريالية.


ولكن علينا، قبل كل شيء، أن نحدد ما نعنيه بالمكان والفضاء" ما دامت العلاقة بين المكان والفضاء تملك تاريخاً معقداً، وأحياناً متناقضاً، في النظرية الثقافية والاجتماعية أواخر القرن العشرين."2

بالنسبة للمفكر الفرنسي غاستن باشلار، المكان هو البيت " ركننا في هذا العالم... كوننا الأول... كون حقيقي بكل معنى الكلمة".3 فنحن نسكن حيزنا الحيوي، الذي هو البيت، بالتوافق مع كل ديالكتيكيات الحياة، وتصبح لنا جذور، يوماً بعد آخر، في ذلك" الركن من العالم". البيت ليس مجرد عليّات أو غرف تحمينا من الخارج، بل مكان للخيال والذاكرة، بالإضافة إلى كونه مكاناً واقعياً. نحن نعايش البيت واقعاً فعليا وافتراضيا، من خلال الأفكار والأحلام. ومن هنا، هو يرتبط بالذاكرة والوعي، والوجود المتخيل والحقيقي. يقول باشلار:

"البيت هو واحد من القوى الكبرى لتساوق أفكار ووذكريات وأحلام الجنس البشري. والعنصر الرابط في هذه العملية هو أحلام اليقظة. إن الماضين والحاضر، والمستقبل تمنح البيت ديناميات مختلفة، وهي غالباً ما ما تتداخل، وأحياناً تتعارض، مع الآخرين، محفزة الواحد بعد الآخر".4

ويرينا باشلار كيف أن الفضاء يشكل طريقة عيشنا، وفهمنا لأنفسنا والآخرين، لأن البيت هو ملجأ لنا من القوى الخارجية، بالإضافة إلى كونه فضاء للعقل. وأن نصف مكانا كـ" بيت"، هو اعتراف بعلاقته مع ذواتنا، ولكي نحقق شعورا متبادلا بالانتماء. ولكن في الوقت نفسه، فأن عيش الفضاء جسدياً يمكن أن يجعلنا نشعر بالجور. وهكذا، فإننا نتأثر إيجاباً وسلباً بمحيطنا، ونكتسب خصائص المكان( البيت).5

أما بالنسبة للمفكر الماركسي الفرنسي هنري لوفيفر، فأن الفضاء هو نتاج اجتماعي، أو بناء اجتماعي معثد، وأن كل مجتمع بنتج فضاءه الخاص. وهو يقول في كتابه" إنتاج الفضاء"، بإن الفضاء الاجتماعي يُنتج ويعاد إنتاجه بالارتباط مع قوى الانتاج، ولكنه ليس شيئاً ضمن أشياء أخرى، وليس نتاجاً ضمن نتاجات أخرى، ولكنه يصنف الأشياء ويستوعب علاقاتها الداخلية وتزامنها، غير أن تمثلات الفضاء هذه مقيدة بعلاقات الانتاج، وبالنظام الذي تفرضه هذه العلاقات:

"الفضاء هو نتاج اجتماعي تهدده القوى الاجتماعية والسياسية( الدولة) التي تشكل خطرا على هذا الفضاء، وتسعى، ولكنها تفشل، في السيطرة عليه كلياً. إن الفضاء الاجتماعي يتكشف بخصوصياته إلى الدرجة التي لا يمكنها معها تمييزه عن الفضاء الذهني. والعامل ذاته الذي يُخضع الواقع المكاني باتجاه نوع من الاستقلالية غير المسيطر عليها، يسعى إلى الدفع بالفضاء الذهني إلى الارض، ثم يقيده ويستعبده". 6

وبالنسبة إلى لوفيفر، هناك تطور متواز بين هيمنة الرأسمالية في الغرب الحديث وإنتاج الفضاء المجرد. فالرأسمالية، مثل الفضاء المجرد، قد خلقت التجانس، والهرمية، والتشظي الاجتماعي.7

تحدد دورين ميسي في كتابها" من أجل الفضاء"، ثلاث خصائص للفضاء: أولا، إنه نتاج علاقة متبادلة، تتشكل خلال التفاعل، من اتساع الكرة الأرضية إلى صغرها.وثانياَ، إنه "ميدان لإمكانية وجود تعددية متزامنة معها". وهذا يعني، بالنسبة لها، عدم وجود فضاء من دون تعددية، ولا وجود لتعددية من دون فضاء. وثالثا، إن الفضاء هو دائماً في حالة تشكّل،" إنه لا ينتهي أبداً، لا يغلق أبداً، وإننا، ربما، نستطيع أن نتخيل الفضاء، كتزامن قصص ما... لحد الان".8

وهي تجادل أيضاً بأن هناك ارتباط بين المكاني( الفضائي) وتكوين المعنى، فاللغةا" تترجم دائماً الحركة وأمدها بلغة الفضاء"، وكلما تمت "عقلنة الوعي أكثر، كلما تجسدت المادة فضائياً أكثر". 9

تسعى ميسي، على أية حال، أن تطرح أفكاراً حول المحلي والعالمي، والمكان والفضاء، والملموس والمجرد. والفضائي ( المكاني) بالنسبة لها  يمكن أن يكون ، مجرداً وملموساً في الآن نفسه، كما أن المكان يمكن أن يضم المادي والمفاهيمي( النظري).10

الأفكار التي تتناول المكان والفضاء، تناولها نقديا أيضاً أيان دافيدسون في كتابه" أفكار الفضاء في الشعر المعاصر"، ويشير فيه إلى أن الفضاء يعاش ويحوّل إلى مفاهيم معاً، أي أننا " نملك وجودأ مجسداً للفضاء، بالإضافة إلى المفهوم الذهني للفضاء". 11

وهو يجادل بأن" شعورنا أين نكون هو مزيج من تلك التجربة الفورية المتجسدة وفكرتنا عن موقعنا ضمن صورة أكبر، يحول إدراكنا من التجربة التي نواجهها ظاهراتياً ، إلى بنية اجتماعية وجغرافية أكبر، نحن جزء منها. 12 

وعلى أية حال، هو يتفق مع ميسي بأن المكان والفضاء متداخلان، قائلاً ، بشكل مقنع، إنه لا يكفي أن نصف" الفضاء" بأنه "مفتوح"و " مجرد"، وأن نصف " المكان" بأنه" مغلق"، لأننا بذلك نقر بوجود تعارض بين الاثنين، وهو تعارض غير موجود.

ويعتقد دافيدسون بان كثيرا من الشعر المعاصر يركز على الحالات النفسية، والشعور، والمفاهيم الفكرية،، وأن المعنى الكامل لعبارة" المكان" في الشعر تتضمن ليس فقط المكان الجغرافي، والمحيط الطبيعي، ولكن أيضاَ تاريخ الحاضر الإنساني، وما قبله، وناسه، وأيضاً، كما في كل شعر، صوت مؤلف القصيدة.

قد توفر هذه الملاحظة الأخيرة مدخلا صحيحاً لفهم شعر لي هاروود في مرحلتيه الاساسيتين.

في قصيدته الشهيرة المبكرة" ما دامت عيناك زروقاوين"، التي نشرت عام 1965"، واعتبرت " علامة متميزة على كتابته الجديدة"13، تبدو تجربة الشاعر في تناوله للمكان تجربة حسية جداً.إنه يراكم أشياء صغيرة ليخلق مشاهد مرئية، ويبدو حساساً بوجوده في المكان، لكنه ليس بعد " جزء" من المكان،14

في المقطع الثاني من هذه القصيدة، بشكل خاص، يصف الشاعر أشياء حقيقية في مكان محدد( نهر تحت النافذة، قميص في أعلى الخزانة، مرآة...). وعلى الرغم من أن الشاعر يستخدم الاستعارة في السطرين الأخيرين، ويترك فراغين للتأمل،